فقرة خارج السياق للكاتب جورج صبّاغ
ذاك الذي مالِئ الدنيا وشاغل الناس، رغم صغر مساحته وافتقاده لثروات طبيعية هامة ومحدودية عدد سكانه، بل بسبب موقعه الجغرافي ودوره ورسالته الإنسانية عبر التاريخ والعصور الغابرة.
هذه ال ١٠٤٥٢ كلم٢، هي قبلة الشرق والغرب على السواء، بتكوينها الجغرافي الخلّاب بدءاً من زَبَد أمواج شواطئها اللازوردية على التوسط، صعوداً الى قممِ جبالها الشامخة المكللةِ بالبياضِ الناصع مروراً بسهولِها المعطاءة وهضابِها المخضوضرة وتضاريسها “الصخرية” المنحوتة بعناية بإزميل مكوّنها والمرصوفة رصفاً بهندسةٍ ولا اروع،وتلالها مراتع النسور والشواهين، الى ينابيعها الدفّاقة التي تستحيل انهاراً وجداول تنساب متسللة مع خريرِها في حنايا أوديتها فتروي الظمأ كما الجنائن الغنّاء المثمرة بكل انواع الفاكهة والخضراوات في البلدات والدساكر وترسم في طريقها إنحداراً حدود اقضيتها طبيعيا في أغلب الأماكن وتبعث من مياهها العذبى الصافية، أسبابَ الحياة في تربتِها المباركة كما النسائم المنعِشة المساهِمة في تكوين مناخٍ معتدل بفصولِه الأربعة، والنادر وجودِها على هذا الكوكب.
( إنه لبناننا إنه سويسرا الشرق و”قطعة سما”).
نعم ، هو مصدر إلهام الباحثين والمفكرين والمبدعين والأدباء والعلماء والشعراء على السواء، وقد نُظمت له أروع القصائد والأشعار والموسوعات والدراسات والمقالات من قبل أهم الكتّاب والمثقفين والفلاسفة (جبران وميخايل نعيمة والياس ابوشبكة )
كما وغنّاه أهم المطربين ورُسم لوحات فنية وجٌسّد واقعاً على خشبات المسارح وفي أعمال (الرحابنة وفيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين ومحمد عبد الوهاب
و La martine وفريد الأطرش وسعيد عقل ونزار قباني وروميو لحود و عبدالحليم كَرَكلّا وذكي ناصيف وفيلمون وهبة وايلي شويري ومروان محفوظ وجوزف عازار وملحم بركات ونبيه ابوالحسن وماجدة الرومي وشحرور الوادي وخليل روكز وزغلول الدامور وموسى زغيب وزين شعيب …… الخ) ونقلوه بأعمالهم الى “فوق” الى حيث النجوم ومصافها ، لجماليتِه التي لا تضاهى مع اي بلد في العالم ولطيبِ العيش فيه وانماطه وتقاليد شعبه وعاداتهم وعلاقاتهم الإجتماعية التي تربط في ما بين مكوناته كلها كما وبين العائلات الروحية.
وما يزيد في غناه، تنوعه الديمغرافي المتعدد، إذ يشكل مختبراً لتفاعل الحضارات وواحة لحوار الأديان وموئلٍ للحريات، مضاف إليهم أصالة شعبه وخصاله وخصائصِه البارزة في الذكاء والشجاعة والإقدام والصلابة والصبر والإبداع والاستفادة من التجارب وخلقِ الفرص واقتناصِها حيثما وُجِدت، كذلك حسن الضيافة والكرَم وحُب المساعدة والعطاء السخي دون مِنة وإغاثة الملهوف، وأينما حلّ في أصقاع الأرض قاطبةً.
نحن اللبنانيون الفخورون بوطننا وهويته التي نحملها،الى أبعد المَديات، لا نزال نشعر اننا مقصّرون تجاهه وتجاه انفسنا رغم كل التضحيات، كي نجسّده فعليا (قطعة سما) وهِبة من الله على الأرض، ويتوجب علينا جميعنا الدفع لإجراء إصلاحات ضرورية في نظامِنا السياسي الذي لا يزال (نظاماً طوائفياً) كما نوّهنا الى ذلك في عدة مقالات سابقة، إذ يشكل كما هي الحال، العامود الفقري لكل أزماتنا ومشكلاتنا ومعاصينا، مع حتمية إعتماد الحوكمة الرشيدة وحسن إدارة شؤونه على قواعد علمية وبرؤى عصرية تحاكي الحداثة، وبالتالي الإنتقال تدريجياً الى الدولة المدنية (نظام علماني مدني)، يؤمّن فصل الدين عن الدولةكما فصل السلطات الحقيقي وتكافؤ الفرص والمساواة ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، لنبني وطنا للأجيال القادمة بعد كل تضحيات الأسلاف والأجداد والآباء، يكون قابلاً للحياة حامي الكل ومُطَئِن للجميع، عندئذٍ تلغى من ذاكرتنا و تُحذف من قاموسنا السياسي حقبات صعبة وسرديات وصِفت وقُيِمت بسيطرة وحُكم ( المارونية السياسية تَلتْها السنية السياسية ومن بعدها الشيعية السياسية) وراهناً نسمعُ من يصف الوضع (بالسيطرة والتحكم للطائفة الشيعية ويهوّل ببروز المارد الشيعي، وبالمظلومية السنيّة والأقلوية المسيحية).
وهكذا معادلات والترويج لها بنوايا خبيثة وبث روح الكراهية والتخويف من الغير والشريك الفعلي، حُكما لا يبنوا وطنا كما نطمح ونتوق، يقضوا على الآمال المنشودة.
وحتى يبقى لبنان (قطعة سما) الى جانب كونه وطن القديسين الذين بنعمةِ الله نشهد على ازديادهم المضطرد بشكلٍ لافت وبحمدِ الله، يتوجّب علينا جميعاً إجراء جردة حساب للحقبات السابقة بعقلانية وواقعية وإعادة النظر بمساراتنا السياسية لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود والكف عن المهاترات والمناكفات المستفزّة التي تستعر عند كل حدثٍ واللجوء الى التهدئة في التخاطب وعدم الممالقة والمراوغة والقيام بالمناورت الفارغة والغش، وحتمية اعادة وصل ما انقطع بين مكوناته السياسية وتقديم بعض التنازلات وبخاصة بين “الزعماء”، واعتماد الحكمة والوعي للصالح العام وللمصالح الوطنية الحقيقية،
ونختم بقولنا هذا :
” من يريد القمر ، لا يتجنّب الليل “
والسلام .